المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الذنوب التي تكفرها الأعمال الصالحة


سلطان الزين
07-20-2024, 05:03 PM
الذنوب التي تكفرها الأعمال الصالحة
أ.د. محمود عبدالعزيز يوسف حجاب


الذنوب التي تكفرها الأعمال الصالحة



هناك مسائل فقهية مشهورة ومن السهولة الوصول إلى وجه الصواب فيها، لأن أدلتها قليلة محصورة، وهناك مسائل غير ذلك، لا بد قبل الحكم عليها من جمع جميع نصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء الواردة فيها حتى تكتمل الصورة فيستطيع الباحث أن يستنبط الحكم الشرعي ويقارن بين الأقوال والأدلة، وذلك مثل مسألتنا هذه فالنصوص فيها كثيرة، وأجتهد في الوصول إلى وجه الصواب فيها، وقد يتغير تصوري للمسألة إذا اطلعت على نص آخر في المسألة فيضيف معناً جديداً فالله المستعان وحسبي أني أجتهد، ورحم الله من أهدى إليَّ عيوبي.






تحرير محل النزاع:




محل الاتفاق


اتفق الفقهاء على أن صغائر الذنوب تكفر بالصلوات الخمس والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر، وهذا كله قبل الموت، فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فإن عذبه فبجرمه، وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة، وإن تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته وندم واعتقد أن لا يعود واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب، وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت وعليه جماعة علماء المسلمين.[1]




محل الخلاف


اختلف أهل العلم في الأعمال الصالحة مثل أداء الصلوات الخمس، وصوم رمضان، والحج والعمرة، وسائر أعمال البر التي وعد الله من أداها بتكفير ذنوبه وخطاياه [2]هل تدخل في تلك المغفرة كبائر الذنوب التي لم يتب صاحبها منها،وذلك على قولين كالآتي:


القول الأول: الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب، وأما الكبائر فلا تُكَفَّر بمجرد فعل الأعمال الصالحة، بل لا بد من التوبة بشروطها حتى تُكَفَّر، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.[3]




القول الثاني: الأعمال الصالحة تكفر الذنوب مطلقاً الصغائر والكبائر، وهو قول ابن المنذر [4]، وابن حزم[5]، وجماعة من أهل العلم المتقدمين، ومن المتأخرين قال به الشيخ الألباني [6]، والشيخ أحمد[7] البنا.[8]




القول الثالث: الحسنات الكبيرة التي قوي فيها الإخلاص قد تكفر الكبائر، ولكن ليس ذلك بالأمر اللازم المطرد، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية [9]، وتلميذه ابن القيم [10]، والحافظ ابن حجر العسقلاني. [11]




استدل أصحاب القول الأول القائلون أن الصالحات تُكفِّر الصغائر لا الكبائر بالآتي:


1 - في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر »، فهذا الحديث واضح الدلالة على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض بل لابد من توبة نصوح.[12]




2 - عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله ».[13]




قال قتادة: "إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا ».[14]




وقال القاضي عياض: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله والله أعلم.




وقال ابن العربي: "الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما اجتنبت الكبائر" [15]




3 - إن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض، والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام، لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع، فثبت أن الكبائر لا بد لها من التوبة.[16]




4 - لو كفرت الكبائر بفعل الفرائض، لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البر في كتابه التمهيد، وحكى إجماع المسلمين على ذلك. [17]




5 - يخشى أن يغتر بهذا القول جاهل فينهمك في الموبقات اتكالاً على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة.[18]




6 - قال الإمام النووي رحمه الله: " أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة ". [19]




وقال ابن بطال رحمه الله: " الصغائر هي من اللمم التي وعد الله مغفرتها لمجتنب الكبائر وأما الكبائر: فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد فيها من التوبة والندم والإقلاع واعتقاد أن لا عودة فيها ". [20]




واستدل أصحاب القول الثاني القائلون أن الصالحات تُكفِّر الصغائر و الكبائر بالآتي:


1 - قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾[21]قال المباركفوري: "وتمسك بظاهر هذه الآية المرجئة وقالوا إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة ". [22]




قال الشوكاني: "إن الحسنات يذهبن السيئات، أي إن الحسنات على العموم ومن جملتها بل عمادها الصلاة يذهبن السيئات على العموم، وقيل المراد بالسيئات الصغائر، ومعنى يذهبن السيئات يكفرنها حتى كأنها لم تكن". [23]




ونوقش:


إن المرجئة هم من تمسكوا بظاهر هذه الآية، وقالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة، وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح: « إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر »، فقال طائفة: إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئاً. [24]




2 - عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا».




قال الشيخ الألباني: " هذا الحصر ينافي الاستفهام التقريري في الحديث الذي قبله «هل يبقى من درنه شيء؟ » كما هو ظاهر، فإنه لا يمكن تفسيره على أن المراد به الدرن الصغير فلا يبقى منه شيء وأما الدرن الكبير فيبقى كله كما هو! فإن تفسير الحديث بهذا ضرب له في الصدر كما لا يخفى. فالذي يبدو لي والله أعلم أن الله تعالى زاد في تفضله على عباده فوعد المصلين منهم بأن يغفر لهم الذنوب جميعاً وفيها الكبائر بعد أن كانت المغفرة خاصة بالصغائر ولعله مما يؤيد هذا قوله تعالى:﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ [25]، فإذا كانت الصغائر تكفر بمجرد اجتناب الكبائر فالفضل الإلهي يقتضي أن تكون للصلاة وغيرها من العبادات فضيلة أخرى تتميز بها على فضيلة اجتناب الكبائر ولا يبدو أن ذلك يكون إلا بأن تكفر الكبائر والله تعالى أعلم؛ ولكن ينبغي على المصلين أن لا يغتروا فإن الفضيلة المذكورة لا شك أنه لا يستحقها إلا من أقام الصلاة وأتمها وأحسن أدائها ". [26]




ونوقش:


أ - ظاهره أن المراد بالخطايا في الحديث ما هو أعمّ من الصغيرة والكبيرة، لكن قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة، لأنه شبه الخطايا بالدرن، والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القروح والخراجات. [27]




ب - قال القرطبي: " ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب وهو مشكل لكن روى مسلم قبله حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: «الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر » فعلى هذا المقيد يحمل ما أطلق في غيره ". [28]




3 - قال سلمان الفارسي في الوضوء: "إنه يكفر الجراحات الصغار والمشي إلى المسجد يكفر أكبر من ذلك والصلاة تكفر أكبر من ذلك ". [29]




أدلة القائلون بأن الحسنات الكبيرة التي قوي فيها الإخلاص قد تكفر الكبائر:


1 - قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾. [30]




وجه الدلالة:


قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنه لا يجوز أن يراد بالآية إن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها، لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة. بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير لم يخلص من الذنب بل هو متق في حال تخلصه منه، وأيضاً فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات وهو حين أتى بها كان فاسقاً، وأيضاً فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل وغصب وقذف وكذلك الذمي إذا أسلم قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، بل يكون مع إسلامه مخلداً وقد كان الناس مسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم ويتوبون إلى الله سبحانه من التبعات، ولا نعرف أحداً من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة ".[31]




2 - عن بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني أبي عن جدي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف ». [32]




3 - عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني آت من ربي، فأخبرني أو قال: بشرني أنه: من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق ». [33]




وجه الدلالة:


"إنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر ".[34]




4 - عن أبي أمامة، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ونحن قعود معه، إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً، فأقمه علي، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً، فأقمه علي، فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما انصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو أمامة: فاتبع الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف، واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما يرد على الرجل، فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً، فأقمه علي، قال أبو أمامة: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟» قال: بلى، يا رسول الله قال: «ثم شهدت الصلاة معنا » فقال: نعم، يا رسول الله قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإن الله قد غفر لك حدك أو قال: ذنبك ».[35]




وجه الدلالة


إن الله عز وجل أطلع نبيه على أن هذا الرجل قد غفر الله له كبيرته بسبب صلاته، وذلك لا يعني أن كل الكبائر من أي مرتكب لها تكفرها صلاتهم مع جماعة المسلمين، وإنما يمكن أن يقع ذلك لبعض العاصين غير هذا الرجل الوارد في الحديث.[36]




وفي كلام ابن القيم رحمه الله ما يشير إلى أن الرجل إنما غفر الله له بسبب توبته الصادقة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاته مع جماعة المسلمين كانت سبب مغفرة ذنبه لأنه صدق التوبة مع الله، وليس بسبب الصلاة المجردة.




قال ابن القيم رحمه الله: " قالت طائفة: بل غفر الله له بتوبته، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وعلى هذا فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله تعالى كما تسقط عن المحارب، وهذا هو الصواب ".[37]




5 - عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها »، وفي رواية: « إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها، فاستقت له به، فسقته إياه، فغفر لها به ».[38]




وجه الدلالة:


قال ابن القيم:" ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة وعدم المعين وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر ثم تواضعها لهذا المخلوق الذى جرت عادة الناس بضربه فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكوراً فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها فهكذا الأعمال والعمال عند الله والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهباً والله المستعان ".[39]




وقال ابن تيمية: " فلا يقال في كل بغى سقت كلباً غفر لها، لأن هذه البغي قد حصل لها من الصدق والإخلاص والرحمة بخلق الله ما عادل إثم البغى وزاد عليه ما أوجب المغفرة، والمغفرة تحصل بما يحصل في القلب من الإيمان الذي يعلم الله وحده مقداره وصفته وهذا يفتح باب العمل ويجتهد به العبد أن يأتي بهذه الأعمال وأمثالها من موجبات الرحمة وعزائم المغفرة ويكون مع ذلك بين الخوف والرجاء ".[40]




ثم يقول " كذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالص وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك، فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له، قال الله تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [41]، فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب وما في القلوب يتفاضل لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق ولم يضرب بعضه ببعض ". [42]




6 - يقول شيخ الاسلام: "فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم فالسعيد منهم من يكتب له نصفها وهم يفعلون السيئات كثيراً فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء وبما يقبل من الجمعة شيء وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر وكذلك سائر الأعمال، وليس كل حسنة تمحو كل سيئة بل المحو يكون للصغائر تارة ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر ".[43]




مناقشة هذا الاستدلال


قال ابن عبد البر: "وقال بعض المنتمين إلى العلم من أهل عصرنا: إن الكبائر والصغائر يكفرها الصلاة والطهارة واحتج بظاهر حديث الصنابجي هذا وبمثله من الآثار وبقوله صلى الله عليه وسلم: «فما ترون ذلك يبقى من ذنوبه »، وما أشبه ذلك، وهذا جهل بيِّن وموافقة للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك، وكيف يجوز لذي لب أن يحمل هذه الآثار على عمومها، وهو يسمع قول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾[44] وقوله تبارك وتعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[45]، ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مكفرة للكبائر والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق ولا قاصد إليه ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى، ولكان كل من توضأ وصلى يُشهَدُ له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح.[46]




وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض والفروض لا يصح أداء شيء منها إلا بقصد ونية واعتقاد أن لا عودة، فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر ولا نادم على ذلك فمحال وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الندم توبة»، وقال صلى الله عليه وسلم «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر »، وفي رواية: « ما لم تغش الكبائر ».[47]




وقال أبو الحسن المالكي: "والمراد بالذنوب التي يكفرها القيام الصغائر التي بينه وبين ربه، وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة ".[48]




وقال الزرقاني: "ثم هذا مخصوص بالصغائر كما صرح به في أحاديث أخر، قال الحافظ ظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيداً باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا الكبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته بنظير ذلك ". [49]




وقال الأحناف: "والكبيرة لا يكفرها إلا التوبة، وأما الصغائر فلها مكفرات كالصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج والاستغفار واجتناب الكبائر على أحد القولين، والأصح أن الحج المبرور لا يكفر الكبيرة، والمغفور هو الصغائر إن وجدت وإلا رجونا أن يغفر من الكبائر، فيكاد أن يكون - أي من قال بتكفير الكبائر من غير توبة - رأياً في مقابلة النص لعدم من سبقه في هذا القول بل الاتفاق على عدم مكفرية الكبائر بشيء من الحسنات ".[50]



وقال الجويني من الشافعية: "وكل ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب، فهو عندي محمولٌ على الصغائر، دون الموبقات ". [51]




وقال ابن مفلح: "وتكفر طهارة وصلاة ورمضان وعرفة وعاشوراء الصغائر فقط، قال شيخنا وكذا حج، لأن الصلاة ورمضان أعظم منه... "[52]




وقال الزركشي: "وأما ما ورد من إطلاق غفران الذنوب جميعها على فعل بعض الطاعات من غير توبة لحديث « الوضوء يكفر الذنوب » وحديث «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه »، «ومن صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه »، «ومن حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه » ونحوه، فحملوه على الصغائر، فإن الكبائر لا يكفرها غير التوبة ".[53]




القول الراجح:


وبعد هذا العرض لكلام أهل العلم في هذه المسألة يظهر لي رجحان قول من قال إن الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب دون كبائرها وأنه لا بد من التوبة بشروطها من الكبيرة حتى تكفر.




أسباب الترجيح:


1 - إن الخطر كل الخطر يكمن في حال أولئك الذين يسرفون في المعاصي، ويصرون على الذنوب، ويقتحمون كل خطيئة، ثم يقولون: سيغفر الله لنا بحسناتنا!، وما أدراهم أن الله تقبل منهم حسناتهم! وما أدراهم أن الله لا يحبط تلك الحسنات بتلك السيئات! بل وما أدراهم أن الله عز وجل سيختم لهم بخاتمة حسنة إذا هم أصروا على ذنوبهم.




قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبة له: " أيها الناس من ألمَّ بذنبٍ فليستغفرِ اللَهَ وليتبْ، فإن عاَدَ فليستغفرِ اللَّهَ وليتبْ، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار عليها ".




2 - ليس معنى هذه المكفرات وما في معناها أن يُقدِمَ الإنسان على المعاصي والشهوات، ويصرَّ عليها، بحجة أنه يعمل هذه الحسنات فتكفرها، فهذا لا يقوله أحد، ولا تؤدي إليه هذه النصوص، وإنما المسلم مطالب بأصل الشرع بعمل الأوامر واجتناب النواهي، وإذا قارف معصية فعليه المبادرة إلى التوبة النصوح بالإقلاع عنها، والتأسف على ما وقع منه، وعقد العزم بعدم العودة إليها، فهذه مع ما يحصل للمسلم من الخير مثل الوضوء والصلاة وفعل الحسنات تكاثر السيئات وتكفرها إذا اجتنب الكبائر ". [54]




يقول ابن القيم: " وكاغترار بعضهم على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة، حتى يقول بعضهم يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر، ولم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان والجمعة الى الجمعة لا يقويا على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر، فكيف يكفر صوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها هذا محال، على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء يكفر لجميع ذنوب العام على عمومه ويكون من نصوص الوعد التي لها شروط وموانع، ويكون إصراره على الكبائر مانعاً من التكفير، فإذا لم يصر على الكبائر تساعد الصوم وعدم الاصرار وتعاونا على عموم التكفير، كما كان رمضان والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر، مع أنه سبحانه قد قال: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ [النساء: 31]، فعلم أن جعل الشيء سبباً للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسبب آخر على التكفير ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما ". [55]



[1] راجع: بريقة محمودية 4/ 309، التمهيد لابن عبد البر 1/ 354 - 357؛ نهاية المطلب في دراية المذهب 4/ 73؛ المجموع شرح المهذب 6/ 382، فتح الباري 12/ 134؛ الفروع 6/ 183 - 184؛ جامع العلوم والحكم ص 215؛ مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، ص261.

[2] فمن ذلك حديث عثمان رضي الله عنه قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من أمرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله " رواه مسلم.

[3] راجع: بدائع الصنائع 6/ 268؛فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ الإمام مالك 1/ 354 - 357؛ كفاية الطالب 1/ 579؛ شرح الزرقاني 1/ 99؛ نهاية المطلب في دراية المذهب 4/ 73؛ المجموع شرح المهذب 6/ 382، الخصال المكفرة للذنوب الخطيب الشربيني، تحقيق: حسام الدين عفانة الطبعة: الأولى، 1423هـ 2002م - القدس فلسطين؛ الفروع 6/ 183 - 184؛ نيل الأوطار 3/ 57.

[4] قال ابن رجب الحنبلي: وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر قال:يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه كبيرها وصغيرها ".

راجع: جامع العلوم والحكم ص 215.

وقال الزركشي: "ونازع في ذلك صاحب الذخائر: وقال فضل الله أوسع وكذلك قال ابن المنذر في الإشراف في كتاب الاعتكاف في قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" قال: يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها. راجع: المنثور 1/ 417 - 418.

[5] قال ابن رجب: "وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر ومنهم ابن حزم الظاهري وإياه عنى ابن عبد البر في كتاب التمهيد بالرد عليه ".راجع: جامع العلوم والحكم ص 215.

[6] راجع: صحيح الترغيب والترهيب ص140 - 141.

[7] أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا، الشهير بالساعاتي، من المشتغلين بعلم الحديث، مصري،والد الشيخ حسن البنا، له (الفتح الرباني في ترتيب مسند الامام ابن حنبل الشيباني)، 6 مجلدات، و (القول الحسن في شرح بدائع المنن) مجلدان في شرح كتاب له سماه (بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن)؛ (توفي بعد1371 ه يوافق1951م) راجع: الأعلام للزركلي 1/ 148.

[8] راجع: الفتح الرباني 11/ 13 - 14.

[9] راجع: كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية ص23؛ منهاج السنة النبوية لا بن تيمية 6/ 135 تحقيق: د. محمد رشاد سالم الناشر: مؤسسة قرطبة، الطبعة لأولى، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، ص261.

[10] راجع: مدارج السالكين لابن قيم الجوزية 1/ 332؛ إعلام الموقعين 4/ 281 - 282.

[11] حيث يقول ابن حجر رحمه الله: " وقد تكفر الصلاة بعض الكبائر كمن كثر تطوعه مثلاً بحيث صلح لأن يكفر عددا كثيراً من الصغائر ولم يكن عليه من الصغائر شيء أصلاً أو شيء يسير وعليه كبيرة واحدة مثلاً فإنها تكفر عنه ذلك لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً " انتهى من فتح الباري 12/ 134.

[12] راجع: فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر 1/ 354 - 357.

[13] أخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب فضل الوضوء والصلاة عقبه برقم (228) 1/ 207.

[14] راجع: جامع العلوم والحكم ص214 - 215.

[15] راجع: عارضة الأحوذي 1/ 13.

[16] راجع: جامع العلوم والحكم ص214 - 215.

[17] راجع: التمهيد لابن عبد البر 4/ 49؛ جامع العلوم والحكم ص214 - 215.

[18] راجع: التمهيد لابن عبد البر 4/ 50؛ جامع العلوم والحكم ص215.

[19] راجع: شرح النووي على مسلم (17/ 81).

[20] راجع: شرح صحيح البخاري لابن بطال (2/ 155).

[21] سورة هود الآية رقم ( 114).

[22] راجع: تحفة الأحوذي 8/ 425.

[23] راجع: تفسير فتح القدير 2/ 532.

[24] راجع: فتح الباري 8/ 453.

[25] سورة النساء الآية 31.

[26] راجع: صحيح الترغيب والترهيب ص140 - 141.

[27] راجع: فتح الباري لابن حجر 2/ 17.

[28] راجع: فتح الباري 2/ 18.

[29] أخرجه محمد بن نصر المروزي.

[30] سورة المائدة الآية رقم (27).

[31] راجع: كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية ص23، مجموع فتاوى ابن تيمية (7/ 489 - 491).

[32] صحيح: أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب في دعاء الضيف برقم (3577) 5/ 568، قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه الألباني في التعليق الرغيب (2/ 269)، وصحيح أبي داود (1358).

[33] متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب ما جاء في الجنائز، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله برقم(1237)2/ 71،ومسلم في الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة برقم (94).

[34] راجع: كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية ص23.

[35] أحرجه مسلم في كتاب التوبة باب قوله تعالى"إن الحسنات يذهبن السيئات " برقم (2765) 4/ 2117.

[36] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " يحتمل أن يختص ذلك بالمذكور، لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد كفر عنه حده بصلاته، فإن ذلك لا يعرف إلا بطريق الوحي، فلا يستمر الحكم في غيره إلا في من علم أنه مثله في ذلك، وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من " فتح الباري " 12/ 134.

[37] راجع: إعلام الموقعين 4/ 281 - 282.

[38] متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب حديث الغار برقم (3467)4/ 73،ومسلم في كتاب السلام باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها برقم (2245)4/ 1861.

[39] راجع: مدارج السالكين لابن قيم الجوزية 1/ 332.

[40] راجع: مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، ص261.

[41] سورة الحج الآية رقم (37).

[42] راجع: منهاج السنة النبوية لا بن تيمية 6/ 135.

[43] راجع: منهاج السنة النبوية 6/ 136.

[44] سورة التحريم الآية رقم (8).

[45] سورة النور الآية رقم (31).

[46] راجع: فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ الإمام مالك 1/ 354 - 357.

[47] سبق تخريجه.

[48] راجع: كفاية الطالب 1/ 579.

[49] راجع: شرح الزرقاني 1/ 99.

[50] راجع: بريقة محمودية (باختصار)3/ 139، المعتصر من المختصر من مشكل الآثار (2/ 134).

[51] راجع: نهاية المطلب في دراية المذهب 4/ 73، المجموع شرح المهذب 6/ 382.

[52] راجع: الفروع 6/ 183 - 184.

[53] راجع: المنثور 1/ 415 - 416.

[54] راجع: فتاوى اللجنة الدائمة 24/ 361.

[55] راجع: الجواب الكافي لابن القيم ص 13.

المدير
08-15-2024, 04:54 AM
https://media.tenor.com/sD-HnBqWAh8AAAAM/nona-taha.gif

أمير الظلام
08-15-2024, 05:55 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك وجزاك الله ألف خير
دمت في حفظ الرحمن ورعايته

عاشق المنتديات
08-15-2024, 06:11 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك و جعله في ميزان حسناتك

سلطان الزين
11-01-2024, 01:26 PM
كل الشكر لمروركم